كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَهَلْ الْحَمْدُ عَلَى كُلِّ مَا يُحْمَدُ بِهِ الْمَمْدُوحُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِاخْتِيَارِهِ أَوْ لَا يَكُونُ الْحَمْدُ إلَّا عَلَى الْأُمُورِ الِاخْتِيَارِيَّةِ. كَمَا قِيلَ فِي الذَّمِّ؟ فِيهِ نَظَرَ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ. وَفِي الصَّحِيحِ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ يَقُولُ: رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ. مِلْءَ السَّمَاءِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمِلْءَ مَا شِئْت مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ. أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ- وَكُلُّنَا لَك عَبْدٌ- لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْت. وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْت. وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْك الْجَدُّ» هَذَا لَفْظُ الْحَدِيثِ. أَحَقُّ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ. وَقَدْ غَلِطَ فِيهِ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُصَنِّفِينَ فَقَالُوا «حَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ». وَهَذَا لَيْسَ لَفْظَ الرَّسُولِ. وَلَيْسَ هُوَ بِقَوْلِ سَدِيدٍ. فَإِنَّ الْعَبْدَ يَقُولُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ. بَلْ حَقٌّ مَا يَقُولُهُ الرَّبُّ. كَمَا قَالَ تعالى: {فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ}. وَلَكِنْ لَفْظُهُ «أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ» خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. أَيْ الْحَمْدُ أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ. أَوْ هَذَا- وَهُوَ الْحَمْدُ- أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ. فَفِيهِ بَيَانُ: أَنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ أَحَقُّ مَا قَالَهُ الْعِبَادُ. وَلِهَذَا أَوْجَبَ قَوْلَهُ فِي كُلِّ صَلَاةٍ وَأَنْ تُفْتَتَحَ بِهِ الْفَاتِحَةُ. وَأَوْجَبَ قَوْلَهُ فِي كُلِّ خُطْبَةٍ وَفِي كُلِّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ. وَالْحَمْدُ ضِدُّ الذَّمِّ. وَالْحَمْدُ يَكُونُ عَلَى مَحَاسِنَ الْمَحْمُودِ مَعَ الْمَحَبَّةِ لَهُ كَمَا أَنَّ الذَّمَّ يَكُونُ عَلَى مُسَاوِيهِ مَعَ الْبُغْضِ لَهُ. فَإِذَا قِيلَ: إنَّهُ سُبْحَانَهُ يَفْعَلُ الْخَيْرَ وَالْحَسَنَاتِ وَهُوَ حَكِيمٌ رَحِيمٌ بِعِبَادِهِ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا: أَوْجَبَ ذَلِكَ أَنْ يُحِبَّهُ عِبَادُهُ وَيَحْمَدُوهُ. وَأَمَّا إذَا قِيلَ: بَلْ يَخْلُقُ مَا هُوَ شَرٌّ مَحْضٌ لَا نَفْعَ فِيهِ وَلَا رَحْمَةَ وَلَا حِكْمَةَ لِأَحَدِ. وَإِنَّمَا يَتَّصِفُ بِإِرَادَةِ تُرَجِّحُ مِثْلًا عَلَى مِثْلٍ. لَا فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ أَنْ يَرْحَمَ أَوْ يُعَذِّبَ. وَلَيْسَتْ نَفْسُهُ وَلَا إرَادَتُهُ مُرَجِّحَةً لِلْإِحْسَانِ إلَى الْخَلْقِ بَلْ تَعْذِيبُهُمْ وَتَنْعِيمُهُمْ سَوَاءٌ عِنْدَهُ. وَهُوَ- مَعَ هَذَا- يَخْلُقُ مَا يَخْلُقُ لِمُجَرَّدِ الْعَذَابِ وَالشَّرِّ وَيَفْعَلُ مَا يَفْعَلُ لَا لِحِكْمَةِ- وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَقُولُهُ الْجَهْمِيَّة-: لَمْ يَكُنْ هَذَا مُوجِبًا لِأَنْ يُحِبَّهُ الْعِبَادُ وَيَحْمَدُوهُ. بَلْ هُوَ مُوجِبٌ لِلْعَكْسِ. وَلِهَذَا فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ بِالذَّمِّ وَالشَّتْمِ وَالطَّعْنِ. وَيَذْكُرُونَ ذَلِكَ نَظْمًا وَنَثْرًا. وَكَثِيرٌ مِنْ شُيُوخِ هَؤُلَاءِ وَعُلَمَائِهِمْ مَنْ يَذْكُرُ فِي كَلَامِهِ مَا يَقْتَضِي هَذَا. وَمَنْ لَمْ يَقُلْهُ بِلِسَانِهِ فَقَلْبُهُ مُمْتَلِئٌ بِهِ لَكِنْ يَرَى أَنْ لَيْسَ فِي ذِكْرِهِ مَنْفَعَةٌ أَوْ يَخَافُ مِنْ عُمُومِ الْمُسْلِمِينَ. وَفِي شِعْرِ طَائِفَةٍ مِنْ الشُّيُوخِ ذُكِرَ نَحْوُ هَذَا. وَهَؤُلَاءِ يُقِيمُونَ حُجَجَ إبْلِيسَ وَأَتْبَاعِهِ عَلَى اللَّهِ. وَيَجْعَلُونَ الرَّبَّ ظَالِمًا لَهُمْ.
وَهُوَ خِلَافُ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ فِي قَوْله تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} وَقوله: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} وَقوله: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}. كَيْفَ يَكُونُ ظَالِمًا؟ وَهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ لَوْ أَسَاءَ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ أَوْ قَصَّرَ فِي حَقِّهِ لَكَانَ يُؤَاخِذُهُ وَيُعَاقِبُهُ وَيَنْتَقِمُ مِنْهُ. وَيَكُونُ ذَلِكَ عَدْلًا إذَا لَمْ يَعْتَدِ عَلَيْهِ. ولو قَالَ: إنَّ الَّذِي فَعَلْته قَدَرٌ عَلَيَّ فَلَا ذَنْبَ لِي فِيهِ: لَمْ يَكُنْ هَذَا عُذْرًا لَهُ عِنْدَهُمْ بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ. فَإِذَا كَانَ الْعُقَلَاءُ مُتَّفِقِينَ عَلَى أَنَّ حَقَّ الْمَخْلُوقِ لَا يَجُوزُ إسْقَاطُهُ احْتِجَاجًا بِالْقَدَرِ. فَكَيْفَ يَجُوزُ إسْقَاطُ حَقِّ الْخَالِقِ احْتِجَاجًا بِالْقَدَرِ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ الْحَكَمُ الْعَدْلُ الَّذِي لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ. وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا. وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْه أَجْرًا عَظِيمًا. وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. فَقَوْلُهُ «أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ» يَقْتَضِي: أَنَّ حَمْدَ اللَّهِ أَحَقُّ مَا قَالَهُ الْعَبْدُ. فَلَهُ الْحَمْدُ عَلَى كُلِّ حَالٍ. لِأَنَّهُ لَا يَفْعَلُ إلَّا الْخَيْرَ وَالْإِحْسَانَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْحَمْدَ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَإِنْ كَانَ الْعِبَادُ لَا يَعْلَمُونَ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ خَلَقَ الْإِنْسَانَ وَخَلَقَ نَفْسَهُ مُتَحَرِّكَةً بِالطَّبْعِ حَرَكَةً لابد فِيهَا مِنْ الشَّرِّ لِحِكْمَةِ بَالِغَةٍ وَرَحْمَةٍ سَابِغَةٍ. فَإِذَا قِيلَ: فَلِمَ لَمْ يَخْلُقْهَا عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ؟. قِيلَ: كَانَ يَكُونُ ذَلِكَ خَلْقًا غَيْرَ الْإِنْسَانِ. وَكَانَتْ الْحِكْمَةُ الَّتِي خَلَقَهَا بِخَلْقِ الْإِنْسَانِ لَا تَحْصُلُ. وَهَذَا سُؤَالُ الْمَلَائِكَةِ حَيْثُ قَالُوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} وَمَا لَمْ تَعْلَمْهُ الْمَلَائِكَةُ فَكَيْفَ يَعْلَمُهُ آحَادُ النَّاسِ. وَنَفْسُ الْإِنْسَانِ خُلِقَتْ كَمَا قَالَ اللَّهُ تعالى: {إنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} وَقَالَ تعالى: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ}. فَقَدْ خُلِقَتْ خِلْقَةً تَسْتَلْزِمُ وُجُودَ مَا وُجِدَ مِنْهَا لِحِكْمَةِ عَظِيمَةٍ وَرَحْمَةٍ عَمِيمَةٍ. فَكَانَ ذَلِكَ خَيْرًا وَرَحْمَةً. وَإِنْ كَانَ فِيهِ شَرٌّ إضَافِيٌّ كَمَا تَقَدَّمَ. فَهَذَا مِنْ جِهَةِ الْغَايَةِ مَعَ أَنَّهُ لَا يُضَافُ الشَّرُّ إلَى اللَّهِ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي مِنْ جِهَةِ السَّبَبِ: فَإِنَّ هَذَا الشَّرَّ إنَّمَا وُجِدَ لِعَدَمِ الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ الَّتِي تُصْلِحُ النَّفْسَ. فَإِنَّهَا خُلِقَتْ بِفِطْرَتِهَا تَقْتَضِي مَعْرِفَةَ اللَّهِ وَمَحَبَّتَهُ. وَقَدْ هُدِيَتْ إلَى عُلُومٍ وَأَعْمَالٍ تُعِينُهَا عَلَى ذَلِكَ. وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَإِحْسَانِهِ. لَكِنَّ النَّفْسَ الْمُذْنِبَةَ لَمَّا لَمْ يَحْصُلْ لَهَا مَنْ يُكَمِّلْهَا بَلْ حَصَلَ لَهَا مَنْ زَيَّنَ لَهَا السَّيِّئَاتِ- مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ- مَالَتْ إلَى ذَلِكَ وَفَعَلَتْ السَّيِّئَاتِ. فَكَانَ فِعْلُهَا لِلسَّيِّئَاتِ. مُرَكَّبًا مِنْ عَدَمِ مَا يَنْفَعُ وَهُوَ الْأَفْضَلُ. وَوُجُودُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ حَيَّرُوهَا. وَالْعَدَمُ لَا يُضَافُ إلَى اللَّهِ. وَهَؤُلَاءِ: الْقَوْلُ فِيهِمْ كَالْقَوْلِ فِيهَا: خَلَقَهُمْ لِحِكْمَةِ. فَلَمَّا كَانَ عَدَمُ مَا تَعْمَلُ بِهِ وَتَصْلُحُ: هُوَ أَحَدُ السَّبَبَيْنِ. وَكَانَ الشَّرُّ الْمَحْضُ الَّذِي لَا خَيْرَ فِيهِ: هُوَ الْعَدَمُ الْمَحْضُ وَالْعَدَمُ لَا يُضَافُ إلَى اللَّهِ. فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْئًا. وَاَللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ: كَانَتْ السَّيِّئَاتُ مِنْهَا بِاعْتِبَارِ أَنَّ ذَاتَهَا فِي نَفْسِهَا مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْحَرَكَةِ الْإِرَادِيَّةِ الَّتِي تَحْصُلُ مِنْهَا- مَعَ عَدَمِ مَا يُصْلِحُهَا- تِلْكَ السَّيِّئَاتِ.
وَالْعَبْدُ إذَا اعْتَرَفَ وَأَقَرَّ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ أَفْعَالِهِ كُلِّهَا فَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ. إنْ اعْتَرَفَ بِهِ إقْرَارًا بِخَلْقِ اللَّهِ كُلَّ شَيْءٍ بِقُدْرَتِهِ وَنُفُوذِ مَشِيئَتِهِ وَإِقْرَارًا بِكَلِمَاتِهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ وَاعْتِرَافًا بِفَقْرِهِ وَحَاجَتِهِ إلَى اللَّهِ وَأَنَّهُ إنْ لَمْ يَهْدِهِ فَهُوَ ضَالٌّ. وَإِنْ لَمْ يَتُبْ عَلَيْهِ فَهُوَ مُصِرٌّ. وَإِنْ لَمْ يَغْفِرْ لَهُ فَهُوَ هَالِكٌ: خَضَعَ لِعِزَّتِهِ وَحِكْمَتِهِ. فَهَذَا حَالُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَرْحَمُهُمْ اللَّهُ وَيَهْدِيهِمْ وَيُوَفِّقُهُمْ لِطَاعَتِهِ. وَإِنْ قَالَ ذَلِكَ احْتِجَاجًا عَلَى الرَّبِّ وَدَفْعًا لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عَنْهُ وَإِقَامَةً لِعُذْرِ نَفْسِهِ فَهَذَا ذَنْبٌ أَعْظَمُ مِنْ الْأَوَّلِ. وَهَذَا مِنْ أَتْبَاعِ الشَّيْطَانِ. وَلَا يَزِيدُهُ ذَلِكَ إلَّا شَرًّا. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الرَّبَّ سُبْحَانَهُ مَحْمُودٌ لِنَفْسِهِ وَلِإِحْسَانِهِ إلَى خَلْقِهِ. وَلِذَلِكَ هُوَ يَسْتَحِقُّ الْمَحَبَّةَ لِنَفْسِهِ وَلِإِحْسَانِهِ إلَى عِبَادِهِ. وَيَسْتَحِقُّ أَنْ يَرْضَى الْعَبْدُ بِقَضَائِهِ. لِأَنَّ حُكْمَهُ عَدْلٌ لَا يَفْعَلُ إلَّا خَيْرًا وَعَدْلًا. وَلِأَنَّهُ لَا يَقْضِي لِلْمُؤْمِنِ قَضَاءً إلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ «إنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ. فَكَانَ خَيْرًا لَهُ. وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ. فَكَانَ خَيْرًا لَهُ». فَالْمُؤْمِنُ يَرْضَى بِقَضَائِهِ لِمَا يَسْتَحِقُّهُ الرَّبُّ لِنَفْسِهِ- مِنْ الْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ- وَلِأَنَّهُ مُحْسِنٌ إلَى الْمُؤْمِنِ. وَمَا تَسْأَلُهُ طَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ وَهُوَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَقْضِي اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِ قَضَاءً إلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ» وَقَدْ قَضَى عَلَيْهِ بِالسَّيِّئَاتِ الْمُوجِبَةِ لِلْعِقَابِ. فَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ خَيْرًا؟.
وَعَنْهُ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَعْمَالَ الْعِبَادِ لَمْ تَدْخُلْ فِي الْحَدِيثِ، إنَّمَا دَخَلَ فِيهِ مَا يُصِيبُ الْإِنْسَانَ مِنْ النِّعَمِ وَالْمَصَائِبِ كَمَا فِي قوله: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} وَلِهَذَا قَالَ «إنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ. فَكَانَ خَيْرًا لَهُ. وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ. فَكَانَ خَيْرًا لَهُ» فَجَعَلَ الْقَضَاءَ: مَا يُصِيبُهُ مِنْ سَرَّاءَ وَضَرَّاءَ. هَذَا ظَاهِرُ لَفْظِ الْحَدِيثِ. فَلَا إشْكَالَ عَلَيْهِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ إذَا قُدِّرَ أَنَّ الْأَعْمَالَ دَخَلَتْ فِي هَذَا. فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «مَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ فَهُوَ مُؤْمِنٌ». فَإِذَا قَضَى لَهُ بِأَنْ يُحْسِنَ فَهَذَا مِمَّا يَسُرُّهُ. فَيَشْكُرُ اللَّهَ عَلَيْهِ. وَإِذَا قَضَى عَلَيْهِ بِسَيِّئَةِ: فَهِيَ إنَّمَا تَكُونُ سَيِّئَةً يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ عَلَيْهَا إذَا لَمْ يَتُبْ مِنْهَا. فَإِنْ تَابَ أُبْدِلَتْ بِحَسَنَةِ. فَيَشْكُرُ اللَّهَ عَلَيْهَا. وَإِنْ لَمْ يَتُبْ اُبْتُلِيَ بِمَصَائِبَ تُكَفِّرُهَا فَصَبَرَ عَلَيْهَا. فَيَكُونُ ذَلِكَ خَيْرًا لَهُ. وَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «لَا يَقْضِي اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِ» وَالْمُؤْمِنُ هُوَ الَّذِي لَا يُصِرُّ عَلَى ذَنْبٍ بَلْ يَتُوبُ مِنْهُ. فَيَكُونُ حَسَنَةً كَمَا قَدْ جَاءَ فِي عِدَّةِ آيَاتٍ. إنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ الذَّنْبَ فَيَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ. لَا يَزَالُ يَتُوبُ مِنْهُ حَتَّى يَدْخُلَ بِتَوْبَتِهِ مِنْهُ الْجَنَّةَ. وَالذَّنْبُ يُوجِبُ ذُلَّ الْعَبْدِ وَخُضُوعَهُ وَدُعَاءَ اللَّهِ وَاسْتِغْفَارَهُ إيَّاهُ وَشُهُودَهُ بِفَقْرِهِ وَحَاجَتَهُ إلَيْهِ وَأَنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا هُوَ.
فَيَحْصُلُ لِلْمُؤْمِنِ- بِسَبَبِ الذَّنْبِ- مِنْ الْحَسَنَاتِ مَا لَمْ يَكُنْ يَحْصُلُ بِدُونِ ذَلِكَ. فَيَكُونُ هَذَا الْقَضَاءُ خَيْرًا لَهُ. فَهُوَ فِي ذُنُوبِهِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: إمَّا أَنْ يَتُوبَ فَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَيَكُونُ مِنْ التَّوَّابِينَ الَّذِينَ يُحِبُّهُمْ اللَّهُ. وَإِمَّا أَنْ يُكَفِّرَ عَنْهُ بِمَصَائِبَ؛ تُصِيبُهُ ضَرَّاءُ فَيَصْبِرُ عَلَيْهَا. فَيُكَفِّرُ عَنْهُ السَّيِّئَاتِ بِتِلْكَ الْمَصَائِبِ وَبِالصَّبْرِ عَلَيْهَا تَرْتَفِعُ دَرَجَاتُهُ. وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى أَهْلُ ذِكْرِي أَهْلُ مُجَالَسَتِي. وَأَهْلُ شُكْرِي أَهْلُ زِيَادَتِي. وَأَهْلُ طَاعَتِي أَهْلُ كَرَامَتِي. وَأَهْلُ مَعْصِيَتِي لَا أُؤَيِّسُهُمْ مِنْ رَحْمَتِي. إنْ تَابُوا فَأَنَا حَبِيبُهُمْ» أَيْ مُحِبُّهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ «وَإِنْ لَمْ يَتُوبُوا فَأَنَا طَبِيبُهُمْ. أَبْتَلِيهِمْ بِالْمَصَائِبِ لِأُكَفِّرَ عَنْهُمْ المعائب». وَفِي قَوْله تعالى: {فَمِنْ نَفْسِكَ} مِنْ الْفَوَائِدِ: أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَرْكَنُ إلَى نَفْسِهِ وَلَا يَسْكُنُ إلَيْهَا. فَإِنَّ الشَّرَّ لَا يَجِيءُ إلَّا مِنْهَا. وَلَا يَشْتَغِلُ بِمَلَامِ النَّاسِ وَلَا ذَمِّهِمْ إذَا أَسَاءُوا إلَيْهِ. فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ السَّيِّئَاتِ الَّتِي أَصَابَتْهُ. وَهِيَ إنَّمَا أَصَابَتْهُ بِذُنُوبِهِ. فَيَرْجِعُ إلَى الذُّنُوبِ فَيَسْتَغْفِرُ مِنْهَا. وَيَسْتَعِيذُ بِاَللَّهِ مِنْ شَرِّ نَفْسِهِ وَسَيِّئَاتِ عَمَلِهِ. وَيَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُعِينَهُ عَلَى طَاعَتِهِ. فَبِذَلِكَ يَحْصُلُ لَهُ كُلُّ خَيْرٍ وَيَنْدَفِعُ عَنْهُ كُلُّ شَرٍّ. وَلِهَذَا كَانَ أَنْفَعُ الدُّعَاءِ وَأَعْظَمُهُ وَأَحْكَمُهُ: دُعَاءَ الْفَاتِحَةِ {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} فَإِنَّهُ إذَا هَدَاهُ هَذَا الصِّرَاطَ: أَعَانَهُ عَلَى طَاعَتِهِ وَتَرْكِ مَعْصِيَتِهِ. فَلَمْ يُصِبْهُ شَرٌّ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ. لَكِنَّ الذُّنُوبَ هِيَ مِنْ لَوَازِمِ نَفْسِ الْإِنْسَانِ. وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى الْهُدَى فِي كُلِّ لَحْظَةٍ: وَهُوَ إلَى الْهُدَى أَحْوَجُ مِنْهُ إلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ. لَيْسَ كَمَا يَقُولُهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ: إنَّهُ قَدْ هَدَاهُ. فَلِمَاذَا يَسْأَلُ الْهُدَى؟. وَأَنَّ الْمُرَادَ بِسُؤَالِ الْهُدَى: الثَّبَاتُ أَوْ مَزِيدُ الْهِدَايَةِ. بَلْ الْعَبْدُ مُحْتَاجٌ إلَى أَنْ يُعَلِّمَهُ رَبُّهُ مَا يَفْعَلُهُ مِنْ تَفَاصِيلِ أَحْوَالِهِ. وَإِلَى مَا يَتَوَلَّدُ مِنْ تَفَاصِيلِ الْأُمُورِ فِي كُلِّ يَوْمٍ. وَإِلَى أَنْ يُلْهَمَ أَنْ يَعْمَلَ ذَلِكَ. فَإِنَّهُ لَا يَكْفِي مُجَرَّدَ عِلْمِهِ إنْ لَمْ يَجْعَلْهُ اللَّهُ مُرِيدًا لِلْعَمَلِ بِعِلْمِهِ وَإِلَّا كَانَ الْعِلْمُ حُجَّةً عَلَيْهِ. وَلَمْ يَكُنْ مُهْتَدِيًا. وَالْعَبْدُ مُحْتَاجٌ إلَى أَنْ يَجْعَلَهُ اللَّهُ قَادِرًا عَلَى الْعَمَلِ بِتِلْكَ الْإِرَادَةِ الصَّالِحَةِ. فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مُهْتَدِيًا إلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ- صِرَاطِ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ- إلَّا بِهَذِهِ الْعُلُومِ وَالْإِرَادَاتِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى ذَلِكَ. وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَاجَاتِ مَا لَا يُمْكِنُ إحْصَاؤُهُ. وَلِهَذَا كَانَ النَّاسُ مَأْمُورِينَ بِهَذَا الدُّعَاءِ فِي كُلِّ صَلَاةٍ لِفَرْطِ حَاجَتِهِمْ إلَيْهِ. فَلَيْسُوا إلَى شَيْءٍ أَحْوَجَ مِنْهُمْ إلَى هَذَا الدُّعَاءِ. وَإِنَّمَا يَعْرِفُ بَعْضَ قَدْرِ هَذَا الدُّعَاءِ مَنْ اعْتَبَرَ أَحْوَالَ نَفْسِهِ وَنُفُوسِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالْمَأْمُورِينَ بِهَذَا الدُّعَاءِ. وَرَأَى مَا فِي النُّفُوسِ مِنْ الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ الَّذِي يَقْتَضِي شَقَاءَهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. فَيَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ- بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ- جَعَلَ هَذَا الدُّعَاءَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْخَيْرِ الْمَانِعَةِ مِنْ الشَّرِّ. وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَقُصَّ عَلَيْنَا فِي الْقُرْآنِ قِصَّةَ أَحَدٍ إلَّا لِنَعْتَبِرَ بِهَا لِمَا فِي الِاعْتِبَارِ بِهَا مِنْ حَاجَتِنَا إلَيْهِ وَمَصْلَحَتِنَا. وَإِنَّمَا يَكُونُ الِاعْتِبَارُ إذَا قِسْنَا الثَّانِيَ بِالْأَوَّلِ وَكَانَا مُشْتَرِكَيْنِ فِي الْمُقْتَضِي لِلْحُكْمِ. فَلَوْلَا أَنَّ فِي نُفُوسِ النَّاسِ مِنْ جِنْسِ مَا كَانَ فِي نُفُوسِ الْمُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ- فِرْعَوْنَ وَمَنْ قَبْلَهُ- لَمْ يَكُنْ بِنَا حَاجَةٌ إلَى الِاعْتِبَارِ بِمَنْ لَا نُشَبِّهُهُ قَطُّ. وَلَكِنَّ الْأَمْرَ كَمَا قَالَ تعالى: {مَا يُقَالُ لَكَ إلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} وَكَمَا قَالَ تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} وَقَالَ تعالى: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} وَقَالَ تعالى: {يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ}. وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَتَسْلُكُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ. قَالُوا: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: فَمَنْ؟» وَقَالَ «لَتَأْخُذَن أُمَّتِي مَأْخَذَ الْأُمَمِ قَبْلَهَا: شِبْرًا بِشِبْرِ وَذِرَاعًا بِذِرَاعِ. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَارِسُ وَالرُّومُ؟ قَالَ: فَمَنْ؟» وَكِلَا الْحَدِيثَيْنِ فِي الصَّحِيحَيْنِ.
«وَلَمَّا كَانَ فِي غَزْوَةِ حنين كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ شَجَرَةٌ- يُقَالُ لَهَا: ذَاتُ أَنْوَاطٍ يُعَلِّقُونَ عَلَيْهَا أَسْلِحَتَهُمْ وَيَنُوطُونَهَا بِهَا وَيَسْتَظِلُّونَ بِهَا مُتَبَرِّكِينَ فَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ يَا رَسُولَ اللَّهِ اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ. فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ. قُلْتُمْ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى لِمُوسَى: اجْعَلْ لَنَا إلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةً. إنَّهَا السَّنَنُ. لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ». وَقَدْ بَيَّنَ الْقُرْآنُ: أَنَّ السَّيِّئَاتِ مِنْ النَّفْسِ وَإِنْ كَانَتْ بِقَدَرِ اللَّهِ. فَأَعْظَمُ السَّيِّئَاتِ: جُحُودُ الْخَالِقِ. وَالشِّرْكُ بِهِ وَطَلَبُ النَّفْسِ أَنْ تَكُونَ شَرِيكَةً وَنِدًّا لَهُ أَوْ أَنْ تَكُونَ إلَهًا مِنْ دُونِهِ. وَكِلَا هَذَيْنِ وَقَعَ فَإِنَّ فِرْعَوْنَ طَلَبَ أَنْ يَكُونَ إلَهًا مَعْبُودًا دُونَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرِي} وَقال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} وَقَالَ لِمُوسَى {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} و{فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ}. وَإِبْلِيسُ يَطْلُبُ: أَنْ يُعْبَدَ وَيُطَاعَ مِنْ دُونِ اللَّهِ. فَيُرِيدُ: أَنْ يُعْبَدَ وَيُطَاعَ هُوَ وَلَا يُعْبَدُ اللَّهُ وَلَا يُطَاعَ. وَهَذَا الَّذِي فِي فِرْعَوْنَ وَإِبْلِيسَ هُوَ غَايَةُ الظُّلْمِ وَالْجَهْلِ. وَفِي نُفُوسِ سَائِرِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ: شُعْبَةٌ مِنْ هَذَا وَهَذَا. إنْ لَمْ يُعِنْ اللَّهُ الْعَبْدَ وَيَهْدِهِ وَإِلَّا وَقَعَ فِي بَعْضِ مَا وَقَعَ فِيهِ إبْلِيسُ وَفِرْعَوْنُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ. قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: مَا مِنْ نَفْسٍ إلَّا وَفِيهَا مَا فِي نَفْسِ فِرْعَوْنَ غَيْرَ أَنَّ فِرْعَوْنَ قَدَرَ فَأَظْهَرَ. وَغَيْرَهُ عَجَزَ فَأَضْمَرَ. وَذَلِكَ: أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا اعْتَبَرَ وَتَعَرَّفَ نَفْسَهُ وَالنَّاسَ وَسَمِعَ أَخْبَارَهُمْ: رَأَى الْوَاحِدَ مِنْهُمْ يُرِيدُ لِنَفْسِهِ أَنْ تُطَاعَ وَتَعْلُو بِحَسَبِ قُدْرَتِهِ. فَالنَّفْسُ مَشْحُونَةٌ بِحُبِّ الْعُلُوِّ وَالرِّيَاسَةِ بِحَسَبِ إمْكَانِهَا فَتَجِدُ أَحَدَهُمْ يُوَالِي مَنْ يُوَافِقُهُ عَلَى هَوَاهُ وَيُعَادِي مَنْ يُخَالِفُهُ فِي هَوَاهُ. وَإِنَّمَا مَعْبُودُهُ: مَا يَهْوَاهُ وَيُرِيدُهُ. قَالَ تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} وَالنَّاسُ عِنْدَهُ فِي هَذَا الْبَابِ: كَمَا هُمْ عِنْدَ مُلُوكِ الْكُفَّارِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ مِنْ التُّرْكِ وَغَيْرِهِمْ. يَقُولُونَ يَا رُبَاعِيّ أَيْ صَدِيقٌ وَعَدُوٌّ. فَمَنْ وَافَقَ هَوَاهُمْ: كَانَ وَلِيًّا وَإِنْ كَانَ كَافِرًا مُشْرِكًا. وَمَنْ لَمْ يُوَافِقْ هَوَاهُمْ: كَانَ عَدُوًّا وَإِنْ كَانَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ. وَهَذِهِ هِيَ حَالُ فِرْعَوْنَ. وَالْوَاحِدُ مِنْ هَؤُلَاءِ: يُرِيدُ أَنْ يُطَاعَ أَمْرُهُ بِحَسَبِ إمْكَانِهِ لَكِنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِمَّا تَمَكَّنَ مِنْهُ فِرْعَوْنُ: مِنْ دَعْوَى الْإِلَهِيَّةِ وَجُحُودِ الصَّانِعِ. وَهَؤُلَاءِ- وَإِنْ كَانُوا يُقِرُّونَ بِالصَّانِعِ- لَكِنَّهُمْ إذَا جَاءَهُمْ مَنْ يَدْعُوهُمْ إلَى عِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ الْمُتَضَمِّنَةِ تَرْكَ طَاعَتِهِمْ: فَقَدْ يُعَادُونَهُ كَمَا عَادَى فِرْعَوْنُ مُوسَى. وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ مِمَّنْ عِنْدَهُ بَعْضُ عَقْلٍ وَإِيمَانٍ لَا يَطْلُبُ هَذَا الْحَدَّ بَلْ يَطْلُبُ لِنَفْسِهِ مَا هُوَ عِنْدَهُ. فَإِنْ كَانَ مُطَاعًا مُسْلِمًا: طَلَبَ أَنْ يُطَاعَ فِي أَغْرَاضِهِ وَإِنْ كَانَ فِيهَا مَا هُوَ ذَنْبٌ وَمَعْصِيَةٌ لِلَّهِ. وَيَكُونُ مَنْ أَطَاعَهُ فِي هَوَاهُ: أَحَبُّ إلَيْهِ وَأَعَزُّ عِنْدِهِ مِمَّنْ أَطَاعَ اللَّهَ وَخَالَفَ هَوَاهُ. وَهَذِهِ شُعْبَةٌ مِنْ حَالِ فِرْعَوْنَ. وَسَائِرِ الْمُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ. وَإِنْ كَانَ عَالِمًا- أَوْ شَيْخًا- أَحَبَّ مَنْ يُعَظِّمُهُ دُونَ مَنْ يُعَظِّمُ نَظِيرَهُ حَتَّى لَوْ كَانَا يَقْرَآنِ كِتَابًا وَاحِدًا كَالْقُرْآنِ أَوْ يَعْبُدَانِ عِبَادَةً وَاحِدَةً مُتَمَاثِلَانِ فِيهَا كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ. فَإِنَّهُ يُحِبُّ مَنْ يُعَظِّمُهُ بِقَبُولِ قَوْلِهِ وَالِاقْتِدَاءِ بِهِ: أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ. وَرُبَّمَا أَبْغَضَ نَظِيرَهُ وَأَتْبَاعَهُ حَسَدًا وَبَغْيًا كَمَا فَعَلَتْ الْيَهُودُ لَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو إلَى مِثْلِ مَا دَعَا إلَيْهِ مُوسَى. قَالَ تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ} وَقَالَ تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} وَقَالَ تعالى: {وَمَا تَفَرَّقُوا إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ}. وَلِهَذَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ بِنَظِيرِ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ فِرْعَوْنَ. وَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ مَنْ انْتَقَمَ بِهِ مِنْهُمْ. فَقَالَ تَعَالَى عَنْ فِرْعَوْنَ: {إنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} وَقَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ: {وَقَضَيْنَا إلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} وَلِهَذَا قَالَ تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا}.